المقاطعة العامة
أيقنت قريش بعد فشل محاولتها استرداد المهاجرين من
الحبشة، وبعد أن رأت الإسلام ينتشر بين القبائل أن لا قدرة على مواجهة
الدعوة بما سلف من أساليب. فعقدت اجتماعاً لمناقشة الوضع في مطلع السنة
السابعة من بعثة الرسول (ص)، حيث قرّر زعماؤها اعتماد أسلوب جديد في
مواجهة المسلمين يقوم على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب، وكلّ من
يساندهم وينتمي إليهم مسلمين ومشركين، وأن تكون هذه المقاطعة شاملة لكلّ
العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
صحيفة المقاطعة:
كتبت قريش صحيفة المقاطعة، وتعاهدت على تنفيذ بنودها،
وعلّقتها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وقد جاء فيها: "باسمك
اللّهمّ، على بني هاشم وبني المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوا،
ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم، ولا يعاملوهم حتّى يدفعوا إليهم
محمَّداً فيقتلوه".
ولكنَّ هاشماً وبني المطلب رفضا الانصياع لمطالب قريش،
وانحازا إلى جانب أبي طالب في حمايته للرسول (ص) وعدم تمكينها من النيل
منه، ودخلوا معه الشعب المسمى باسمه.
استمرت المقاطعة سنتين وعدّة أشهر، عانى فيها المسلمون
ونبيّهم الآلام وذاقوا فيها الجوع والخوف والعزلة، وكان لا يصلهم خلالها
شيء إلاَّ سراً يحمله إليهم مستخفياً من أراد مساعدتهم من قريش، لأنَّها
كانت ترصد كلّ حركة باتجاههم، وتعطّل في هذه الأثناء حلف الفضول الذي كان
يدعو إلى نصرة المستضعف والمظلوم، ويبدو أنَّ قريشاً كانت تخشى من مطالبة
هاشم حلفاءها الوقوف إلى جانبها، ولذلك كان الحرص على أن تكون الوثيقة
مكتوبة، وقد استجابت إلى هذه المقاطعة كلّ البطون القرشية ـ ما عدا بني
هاشم وبني المطلب ـ لأنَّهم اعتبروا أنَّ الدعوة تشكّل خطراً على الجميع.
طالت أيام الحصار، واشتدّ الأذى بالمحاصرين في شعب أبي
طالب، فلم يكن لأحد من قريش أن يزوجهم أو يتزوج منهم، ولا أن يبيعهم أو
يبتاع منهم، وكانوا لا يخرجون من الشعب طيلة سني الحصار، "إلاَّ من موسم
إلى موسم، حتّى بلغهم الجهد، وتضاغى صبيانهم فسمع ضغاؤهم من وراء الشعب".
وقال عبد اللّه بن عباس: "حصرنا في الشعب ثلاث سنين، وقطعوا عنّا الميرة،
حتى أنَّ الرّجل ليخرج بالنفقة فما يُباع شيئاً حتّى مات منّا قومٌ".
أصوات لوقف القطيعة:
إزاء هذا الواقع الذي حلّ ببني هاشم وبني المطلب ومن
معهم من المسلمين، تنادت بعض رجالات قريش، ممن تربطهم قرابة بالمحاصرين
في الشعب إلى وقف القطيعة، وإعادة الأمور إلى مجاريها، وكان على رأس
هؤلاء هشام بن عمرو، الذي تصله ببني هاشم صلة من قرابة، وكان ذا شرفٍ في
قومه، وكان قد بذل جهده أثناء الحصار لإيصال الطعام سراً إلى الشعب،
فاتصل بزهير بن أبي أميّة، وكانت أمّه عاتكة بنت عبد المطلب، وأقنعه
بضرورة نقض الوثيقة، ولـم يلبث أن أقنع هشام ثلاثة رجال آخرين هم المطعم
بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب، بضرورة تمزيق
الصحيفة وإنهاء المقاطعة.
وتواعد الرجال الخمسة على اللقاء ليلاً بأعلى مكة،
وهناك أجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام بتمزيق الصحيفة، وقال زهير: أنا
أبدأكم فأكون أول من يتكلّم، وفي صباح اليوم التالي أقبل زهير على النّاس
وقال: "يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون
ولا يبتاع منهم؟ واللّه لا أقعد حتّى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة"،
فردّ عليه أبو جهل: "كذبت واللّه لا تشقّ!!" قال زمعة بن الأسود: "أنت
واللّه أكذب، ما رضينا كتابتها حيث كتبت".
وسرعان ما أيّده رفاقه الثلاث، فقال أبو جهل: هذا أمر
قضي بليل!! وما لبث المطعم أن قام إلى الصحيفة فمزقها". وفي رواية أخرى
أنَّ الأرضة قد أكلتها إلاَّ كلمة "باسمك اللّهمّ"، وكانت العرب تفتح بها
كتبها. وبعد أن مزقت الصحيفة، لبس المطعم ورفاقه السّلاح واتجهوا إلى
الشعب وخرج بنو هاشم وبنو المطلب إلى مساكنهم، وعندما رأت قريش ذلك أسقط
في أيديها وعرفت أنَّهم لن يسلموهم.