نار الذهب تحرق مشروعات الزواج
لم تكن المعاناة التي يتكبدها الشباب في تدبير تكاليف الزواج وليدة لظروف حديثة فجَّرتها الأزمة الاقتصادية الحالية؛ فالعادات المتعلقة بالمغالاة هي الأساس، وبدلاً من إعلان الحرب على هذه العادات التي تعوق الزواج وتؤخر سُنة لدى الشباب من الجنسين نرى من يزيدها توغلاً ورسوخًا بالتوازي مع ازدياد الأزمات.
ولما حدثت الطفرة الأخيرة في تلك القفزات التي سجلها سوق الذهب العالمي.. ظن الجميع أنه لن يكون شرطًا لإتمام الزواج فإذا به يتحول إلى كابوس مخيف ونار تحرق أحلام الشباب في إعفاف أنفسهم طرحنا هذا الموضوع للنقاش حتى يدرك المتمسكون بتلك العادات مدى استياء الشباب من هذا التعنت وكيف أنه تحول سببًا للعصف ببيوت جديدة قد تنشأ.
وإن كانت هناك بعض الدول لم تعانِ من حجم المشكلة كما تعانيها دول أخرى فإن الأمر واحد في النهاية، كلٌّ لديه عوائق تمثل حائط سد لإعفاف الشباب.
يقول أحمد العلي من السعودية: إن هناك شريحة معينة في المجتمع السعودي تأثرت بهذه الأسعار وهي منطقة الجنوب؛ حيث يمثل الذهب القيمة الأعلى التي يتمسكون بها عند إتمام الزواج والتي ينخفض بجانبها قيمة الأثاث بما يختلف عن باقي المناطق في السعودية التي لم تتأثر كثيرًا بارتفاع الأسعار؛ لأن الأثاث والكماليات هي الأهم والتي تتكلف أضعاف تكاليف الذهب.
وترى "هناء علي" من السعودية أن أهم أسباب إعاقة الزواج في السعودية ترجع لانتشار البطالة، وليس لارتفاع أسعار الذهب هذا التأثير.
أما محمد العنزي من السعودية فيختلف عن الآراء السابقة بقوله: التأثير يختلف من مجتمع لآخر، لكن في مجتمعي الخليجي لا أرى هناك تأثيرًا قويًّا في ارتفاع أسعار الذهب على إتمام مشروعات الزواج؛ فقد كان الذهب قديمًا يمثل ركنًا أساسيًّا من عملية التجهيز لكنه الآن يقتصر على الشبكة وبعض الهدايا الذهبية التي لا يمكنها بذاتها إعاقة مشروع الزواج، بل أرى أن أسباب الترفيه الأخرى من تكاليف الزواج هي المتسبب الأكبر في إعاقة العملية.
ويضيف عبد الله طلعت من السعودية: قد يكون ارتفاع أسعار الذهب قد أثَّر على بعض المجتمعات في إتمام مشاريع الزواج إلا أن الوضع في السعودية مختلف بعض الشيء؛ لأن تكاليف الزواج هنا مرتفعة جدًّا بشكل عام وليس الذهب وحده هو العامل المؤثر؛ فقد تتكلف ليلة الزفاف وحدها على أقل تقدير 20 ألف ريال، وأرى أن المشكلة بالأصل تكمن في ارتفاع أسعار المباني والأراضي، أي توفير المسكن.
أما راشد حمدان من الإمارات فيقول إن الوضع في الإمارات يختلف عن أي بلد عربي آخر حتى البلدان الخليجية؛ حيث إن عوائق إتمام الزواج ترجع إلى ارتفاع المهور بشكل مبالغ فيه إلى جانب ارتفاع أسعار السكن الخرافية والاهتمام بالكماليات فتصل التكلفة إلى مئات الآلاف من الدراهم، حتى إن ليلة الزفاف قد تتكلف وحدها 75 ألف درهم؛ ولذلك يعتمد الشباب على الاقتراض من البنوك ولا يمثل الذهب العائق الأكبر في إعاقة الزواج.
إلا أن الوضع اختلف تمامًا في بلدان أخرى تسبب ارتفاع الذهب فيها إلى منع زيجات كثيرة؛ فقال طارق دايلواني من الأردن أن ارتفاع أسعار الذهب كان له أبلغ الأثر على مشاريع الزواج فمعظمها تم تأجيله لحين انخفاض أسعاره وكثيرًا منها فشلت بسبب عدم الاتفاق على قيمة الذهب بعد أن طاوله الارتفاع ولم يعد أي مبلغ معقول يفي بهذا الاحتياج إلى جانب تمسك الأهل بشبكة قيِّمة دون أي تنازل، إلا أن أغلب الشباب لجأ إلى حيلة لحل هذه المعضلة وهي استعارة الشبكة من الأصدقاء والأقارب أو اللجوء لبدائل من قبيل الذهب الروسي التقليد والمنخفض التكاليف.
كما صرح نبيل الهندي من عدن بقوله أنا أحد المتضررين من ارتفاع الذهب؛ حيث إنني لم أستطع الزواج حتى الآن بسبب الارتفاع غير المعقول للذهب، وأتمنى أن يتم تحديد عدد الجرامات بشكل أكثر تيسيرًا على الشباب.
وأضافت هاجر طهيرى من تونس أن التشبث بكل العادات والتقاليد المكلفة الخاصة بالزواج وأكبر عائق فيها الآن وهو الذهب ابتدع ليكون حاجزًا دون إتمام الزواج بالنسبة للشباب.
وأشار مصطفى عبد الخالق من مصر إلى أن أسعار الذهب وصلت إلى حد يفوق الخيال، وأنه كلما أقدم على خطوة التقدم لإحدى الفتيات اكتشف أن ما ادخره لم يعد يكفي لشراء شبكة مناسبة فينتظر قليلا لعله يدخر مبلغًا آخر فإذا به يرتفع مرة أخرى مما جعله في حالة لهاث دائم وراء توفير ثمن الشبكة!.
يستعرض محمد سعد صائغ من مصر ما آل إليه الوضع قائلا: هناك تراجع ملحوظ في شراء الذهب سواء كان ذلك كشبكة أو دون ذلك، إلا أن هذا التراجع لا يعني أنه توقف خاصة في شراء الشبكة ولكنه مجرد تأجيل لحين استقرار الأمور أو لاستكمال المبلغ المتفق عليه، وقد يتضح هذا التأجيل في المناطق الفقيرة بدليل أنه ما زال هناك من يشتري شبكة برغم هذا الارتفاع ولكن في نطاق ضيق جدًّا؛ فبدلاً من بيع شبكتين أو ثلاث في الأسبوع أصبح البيع الآن يعتمد على شبكة واحدة في الشهر!.
ولعل ارتفاع أسعار الذهب بهذه السرعة يرجع إلى إقبال المستثمرين على شراء الذهب الخام في ظل عدم استقرار السوق؛ وهو ما أثر على زيادة التكاليف الخاصة بصياغة الذهب، بالإضافة إلى انخفاض الإقبال على شرائه؛ مما اضطر أصحاب الورش لتعويض هذه الخسارة النابعة من الركود إلى زيادة أسعار المصنعية؛ مما جاء بزيادة أخرى فوق الزيادة في سعر الجرام.
المغالاة هي السبب
يقول د.فتحي الضبع أستاذ مساعد كلية التربية علم نفس جامعة الملك خالد بأبها السعودية: في اعتقادي أن التمسك بشراء شبكة مرتفعة الثمن لا يخرج عن عاملين، أولهما يرتبط بالنفاق الاجتماعي وبنظرة بعض الأسر إلى تقييم الشاب من خلال مقدار الشبكة التي يقدمها. والآخر نفسي يرتبط بفقدان الثقة في شباب هذه الأيام والشك في قدرتهم على تحمل مسئولية الزواج والخوف من الغدر والخيانة، وبالتالي لا بد من تكبيله برباط مادي قد يفوق قدراته وإمكاناته حتى لا يمكنه الهرب والتنصل من إتمام الزواج.
إلا أن حل هذه الأزمة جاء في جملة واحدة للحبيب المصطفى "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه"؛ فالأمان هنا ليس بالتكبيل ولكن في الثقة بخلقه ودينه؛ فقيمة الفرد ليست فيما يمتلكه من جوانب مادية بل قيمته في شرفه ودينه وخلقه ومقدرته المادية التي تيسر له حياة كريمة في ظل ظروفه بدون مبالغة وإسراف.
ونظرًا لأنني أستبعد تمامًا النظرة الأحادية في تفسير أية مشكلة، وأميل إلى التفسير الشبكي في التصدي لأية قضية، ففيما يتعلق بظاهرة العنوسة لا يمكن لأي طرف وحده أن ينهض بتفسيرها وإيجاد حلول لها، ولا بد من النظر إليها من جميع أبعادها؛ فهي قضية دينية اجتماعية إعلامية نفسية، وبالتالي لا بد أن يتصدى لمواجهتها كل من أولياء الأمور، والجمعيات الأهلية، وعلماء الدين، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس، ووسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء.
وتوضح الدكتورة سامية خضر أستاذة علم الاجتماع بكلية التربية جامعة عين شمس أن المشكلة لا ترتبط بالشبكة في حد ذاتها ولكن في المغالاة بكل ما يتعلق بأمور الزواج، وللأسف فإن هذه المغالاة هي ثقافة مجتمع لا يكمن أن تتغير بين عشية وضحاها، والسبب دائما يرجع إلى ما يرسخه الإعلام من هذه الأفكار حتى بعد أن وصل عدد القنوات إلى هذا الكم، إلا أنها ما زالت في منتهى التخلف ولا تعطي أي مساحة لظهور الصور الإيجابية؛ ولذلك فمن الطبيعي أن نجد الفتيات السطحيات اللاتي لا يفكرن إلا في المادة ونرى ذلك الجمود والتحفظ لدى الأهالي حتى تتساوى ابنتهم مع مثيلاتها من بنات العائلة.
وأعتقد أن الحل الوحيد لتغيير هذه الفكرة هو تغيير الرأي العام من خلال مشاركه إعلامية متواصلة لمده ثلاث أو أربع سنوات يكون التركيز فيها على إثارة الوعي بأن المادة لا يمكن أن تصنع السعادة وأن نتعلم أن نزن الإنسان بشخصيته وليس بما يملكه.. حتى نستطيع أن نساير ما يحدث من تغيرات اقتصادية تؤثر بصورة مباشرة على النواحي الاجتماعية ونمنع الشباب من ممارسة حياة طبيعية لخطأ وحيد ارتكبه هو وجوده في مجتمع يرفض المرونة والتغيير.
أعراف فاسدة
ويقول د. رضا شعبان أستاذ الفقه والشريعة بكلية الشريعة جامعة الأزهر: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيسرهن مهورًا أكثرهن بركة"، وكان يزوج من بيت النبوة بـ 40 درهمًا، ثم خفَّضها وقال صلى الله عليه وسلم "التمسوا ولو خاتمًا من حديد"، بل إنه زوَّج بما يحفظه المرء من سور القرآن.
إذن فإن عرف الناس مخالف الشريعة؛ فالسيدة فاطمة عندما تزوجت الإمام علي لم يكن لديه مال فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يبيع درعه فيكون ثمنه مهرًا لها. وبالرغم مما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التيسير والتسهيل في أمور الزواج فإننا نبالغ في كل الأمور المتعلقة به حتى في ظل الأحوال الاقتصادية المتدهورة، وهو ما أظهر عزوف الشباب وعنوسة الفتيات، ثم ما زلنا أيضًا نتمسك بالمغالاة، فهل بنات اليوم أفضل من بنات الرسول صلى الله عليه وسلم؟!.
وإذا كان هناك من يدعي بأن الناس لم يعودوا كما كانوا وقت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فذلك لأن معيارهم كان الأخلاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه".
فالزمن بمن يعيشون فيه، والعيب ليس في الزمان ولكن في الأعراف الفاسدة التي تسير حسب ظروفنا المادية، ولا ننسى أن الشبكة في النهاية قلَّت أو كثرت هي مجرد رمز.. وليس أكثر من أمثلة الفشل التي كان الأساس فيها اختيار المادة فقط.